فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكون اليهود على بيّنة إنما هو بالنسبة لانتظارهم رسولًا مبشّرًا به في كتابهم وإن كانوا في كفرهم بعيسى عليه السلام ليسوا على بيّنة.
فالمراد على بيّنة خاصة يدل عليها سياق الكلام السابق من قوله: {فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} [هود: 14]، ويعينها اللاحق من قوله: {أولئك يؤمنون به} أي بالقرآن.
و(مِن) في قوله: {من ربه} ابتدائية ابتداء مجازيًا.
ومعنى كونها من ربه أنها من وحي الله ووصايته التي أشار إليها قوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لَمَا آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لمَا مَعكم لتُؤمنن به ولتنصرنه} [آل عمران: 81] وقوله: {الذينَ يَتبعون الرسول النّبيء الأمّيّ الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التّوراة والإنجيل} [الأعراف: 157].
وذكر كتاب موسى وأنه من قبله يشير إلى أن البيّنة المذكورة هنا من الأنجيل، ويقوي أن المراد بـ: {من كان على بينة من ربه} النصارى.
وفعل (يتلوه) مضارع التّلو وهو الاتّباع وليس من التلاوة، أي يتبعه.
والاتباع مستعار للتّأييد والاقتداء فإن الشاهد بالحق يحضر وراء المشهود له.
وضمير الغائب المنصوب في قوله: {يتلوه} عائد إلى: {من كان على بينة من ربه}.
والمراد بـ: {شاهد منه} شاهد من ربه، أي شاهد من الله وهو القرآن لأنه لإعجازه المعاندين عن الإتيان بعشر سور مثله كان حجة على أنه آت من جانب الله.
و: {مِن} ابتدائية.
وضمير: {منه} عائد إلى: {ربه}.
ويجوز أن يعود إلى: {شاهد} أي شاهد على صدقه كائن في ذاته وهو إعجازه إياهم عن الإتيان بمثله.
و: {من قبله} حال من: {كتاب موسى}.
و: {كتاب موسى} عطف على: {شاهد منه} والمراد تلوه في الاستدلال بطريق الارتقاء فإن النصارى يهتدون بالإنجيل ثم يستظهرون على ما في الإنجيل بالتّوراة لأنّها أصله وفيها بيانه، ولذلك لما عطف: {كتاب موسى} على: {شاهد} الذي هو معمول: {يتلوه} قيد كتاب موسى بأنه من قبله، أي ويتلوه شاهد منه.
ويتلوه كتاب موسى حالة كونه من قبْل الشاهد أي سابقًا عليه في النزول.
وإذا كان المراد بـ: {من كان على بيّنة من ربّه} النصارى خاصة كان لذكر: {كتاب موسى} إيماء إلى أن كتاب موسى عليه السلام شاهد على صدق محمّد صلى الله عليه وسلم ولم يُذكر أهل ذلك الكتاب وهم اليهود لأنهم لم يكونوا على بيّنة من ربّهم كاملةٍ من جهة عدم تصديقهم بعيسى عليه السلام.
و: {إمامًا ورحمة} حالان ثناء على التوراة بما فيها من تفصيل الشريعة فهو إمام يهتدى به ورحمة للنّاس يعملون بأحكامها فيرحمهم الله في الدنيا بإقامة العدل وفي الآخرة بجزاء الاستقامة إذ الإمام ما يؤتم به ويعمل على مثاله.
والإشارة بـ: {أولئك} إلى: {من كان على بينة من ربّه}، أي أولئك الذين كانوا على بيّنة من ربهم يؤمنون بالقرآن وليسوا مثلكم يا معشر المشركين، وذلك في معنى قوله تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكّلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين} [الأنعام: 89].
وإقحام: {أولئك} هنا يشبه إقحام ضمير الفصل، وفيه تنبيه على أن ما بعده من الخبر مسبب على ما قبل اسم الإشارة من الأوصاف وهي كونهم على بينة من ربهم معضدة بشواهد من الأجيل والتوراة.
وجملة: {أولئك يؤمنون به} خبر: {من كان على بينة من ربه}.
وضمير (به) عائد إلى القرآن المعلوم من المقام أو من تقدم ضميره في قوله: {أم يقولون افتراه} [هود: 13].
وبه ينتظم الكلام مع قوله: {أم يقولون افتراه} إلى قوله: {فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} [هود: 13، 14] أي يؤمنون بكون القرآن من عند الله.
والباء للتعدية لا للسببية، فتعدية فعل (يؤمنون) إلى ضمير القرآن من باب إضافة الحكم إلى الأعيان وإرادة أوصافها مثل: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23]، أي يؤمنون بما وصف به القرآن من أنه من عند الله.
وحاصل معنى الآية وارتباطها بما قبلها: {فهل أنتم مسلمون} [هود: 14] فإن الذين يؤمنون به هم الذين كانوا على بيّنة من ربّهم مؤيّدة بشاهد من ربهم ومعضودة بكتاب موسى عليه السلام من قَبْل بيّنتهم.
وقريب من معنى الآية قوله تعالى: {قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم} [الأحقاف: 10] فاستقام تفسير الآية تمام الاستقامة، وأنت لا يعوزك تركيب الوجوه التي تأول بها المفسرون مِمّا يخالف ما ذكرناه كُلًا أو بَعضًا فبصَرك فيها حديد، وبيدك لفتح مغالقها مَقاليد.
وجملة: {ومن يكفر به من الأحزاب} عطف على جملة: {أفمن كان على بيّنة من ربّه} لأنه لمّا حرض أهل مكة على الإسلام بقوله: {فهل أنتم مسلمون} [هود: 14]، وأراهم القِدْوة بقوله: {أولئك يؤمنون به}، عاد فحذر من الكفر بالقرآن فقال: {ومن يكفر به من الأحزاب}، وأعرض عما تبين له من بيّنة ربه وشواهد رسله فالنّار موعده.
والأحزاب: هم جماعات الأمم الذين يجمعهم أمْرٌ يجتمعون عليه، فالمشركون حزب، واليهود حزب، والنصارى حزب، قال تعالى: {كذبت قبلهم قوم نوححٍ وعادً وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب ليكة أولئك الأحزاب} [ص: 12، 13].
والباء في: {يكفر به} كالباء في: {يؤمنون به}.
والموعد: ظرف للوعد من مكان أو زمان.
وأطلق هنا على المصير الصائر إليه لأن شأن المكان المعيّن لعمل أن يعين به بوعد سابق.
تفريع على جملة: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم.
والنهي مستعمل كناية تعريضية بالكافرين بالقرآن لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ونقصه، فمن لوازمه ذم المتلبس بالمنهي عنه.
ولما كان المخاطب غير مظنة للتلبس بالمنهي عنه فيُطلبَ منه تركه ويكون النهيُ طلبَ تحصيل الحاصل، تعيّنَ أن يكون النهي غير مراد به الكفّ والإقلاع عن المنهي عنه فيكون مستعملًا في لازم ذلك بقرينة المقام، ومما يزيد ذلك وضوحًا قوله تعالى في سورة آلم [السجدة: 23]: {ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه} فإنه لو كان المقصود تحذير النّبيء صلى الله عليه وسلم من الامتراء في الوحي لما كان لتفريع ذلك على إيتاء موسى عليه السلام الكتاب ملازمة، ولكن لما كان المراد التعريض بالذين أنكروا الوحي قدّم إليهم احتجاجَ سبق الوحي لموسى عليه السلام.
و: {في} للظرفية المجازية المستعملة في تمكن التلبس نظرًا لحال الذين استعمل النهي كناية عن ذمّهم فإنهم متلبسون بمزية شديدة في شأن القرآن.
وضميرا الغيبة عائدان إلى القرآن الذي عاد إليه ضمير: {افتراه} [هود: 13].
وجملة: {إنه الحق من ربك} مستأنفة تأكيد لما دلت عليه جملة: {فلا تَكُ في مرية منه} من أنه لوضوح حقيته لا ينبغي أن يمترى في صدقه.
وحرف التأكيد يقوم مقام الأمر باعتقاد حقيته لما يدل عليه التأكيد من الاهتمام.
والمرية: الشك.
وهي مرادفة الامتراء المتقدم في أول الأنعام.
واختير النهي على المرية دون النهي عن اعتقاد أنه كذب كما هو حال المشركين، لأن النهي عن الامتراء فيه يقتضي النهي عن الجزم بالكذب بالأوْلى، وفيه تعريض بأن ما فيه المشركون من اليقين بكذب القرآن أشد ذمًّا وشناعة.
و: {مِن} ابتدائية، أي في شك ناشئ عن القرآن، وإنما ينشأ الشك عنه باعتبار كونه شكًّا في ذاته وحقيقته لأن حقيقة القرآنية أنه كتاب من عند الله، فالشك الناشئ على نزوله شك في مجموع حقيقته.
وهذا مثل الضمير في قوله: {يؤمنون به} من غير احتياج إلى تقدير مضاف يؤول به إلى إضافة الحكم إلى الأعيان المراد أوصافها.
وتعريف: {الحق} لإفادة قصر جنس الحق على القرآن.
وهو قصر مبالغة لكمال جنس الحق فيه حتى كأنه لا يوجد حق غيره مثل قولك: حاتم الجواد.
والاستدراك بقوله: {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} ناشيء على حكم الحصر، فإنّ الحصر يقتضي أن يؤمن به كل من بلغه ولكن أكثر الناس لا يؤمنون.
والإيمان هو التصديق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الدين.
وحذف متعلق: {يؤمنون} لأن المراد انتفاء حقيقة الإيمان عنهم في كل ما طلب الإيمان به من الحق، أي أن في طباع أكثر الناس تغليب الهوى على الحق فإذا جاء ما يخالف هواهم لم يؤمنوا. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}
قوله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُه}.
صرح الله تعالى في هذه الآية الكريمة: أن هذا القرآن لا يكفر به أحد كائنًا من كان إلا دخل النار. وهو صريح في عموم رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم غلى جميع الخلق. والآيات الدالة على ذلك كثيرة، كقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19]، وقوله: {تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ} [سبأ: 28] الآية. وقوله: {قُلْ يا أيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] الآية.
قوله تعالى: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ َ} الآية.
نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن الشك في هذا القرآن العظيم، وصرح أنه الحق من الله. والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة جدًا كقوله: {الم ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1-2] الآية وقوله: {الم تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين} [السجدة: 1- 2] ونحو ذلك من الآيات. والمرية: الشك.
قوله تعالى: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ}.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن أكثر الناس لا يؤمنونن وبين ذلك أيضًا في مواضع كثيرة، كقوله: {وَمَا أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] وقوله: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ} [الأنعام: 116]، وقوله: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين} [الصافات: 71]، وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 8] إلى غير ذلك من الآيات. اهـ.

.قال الشعراوي:

{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ}
والبيِّنة هي بصيرة الفطرة السليمة التي تُلْفِت الإنسان إلى وجود وجب الوجود، وتوضِّح للإنسان أن هذا الكون الجميل البديع لابد له من واجد.
وهكذا تكون الهداية بالبصيرة والفطرة.
والعربي القديم حين سار في الصحراء ووجود بَعْرًا مُلْقَى في الصحراء، ورأى أثر قدم، فقال: البَعْرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، وسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات امواج، أفلا يدل كُلُّ ذلك على اللطيف الخبير؟.
وهكذا اهتدى الرجل بالفطرة، وهي بيِّنة من الله. وقد أودع الله سبحانه في كل إنسان فطرة، وبهذه الفطرة شهدنا في عالم الذَّرِّ. وفي ذلك يقول الحق سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172].
إذن: فالبيِّنة هي: إيمان الفطرة المركوز في ذرات الأشياء.
وقد تُضبِّب الشهوات هذا الإيمان، فلا يحمل نفسه على المنهج فيرسل الحق سبحانه رحمة منه رسلًا تذكِّرنا بالبينات الأولى، وتدلنا على العلل والأحكام حتى تنضمَّ البينة من الرسل على البينة من الفطرية في الكائن.
وهكذا يبيِّن الحق سبحانه وتعالى مناط الاقتناع بدين الله، فقد يكون هذا الأمر مجهولًا للخلق، فيريد سبحانه أن يبيِّن لنا أن هذا الجهل هو جهل غير طبيعي؛ لأن الفطرة السليمة تهتدي قبل أن يجيء رسولٌ يُلْفِتنا إلى القوة العليا التي تدبِّر حركة هذا الكون.
وقد ضربت من قبل مثلًا لذلك بمن سقطتْ به طائرة في الصحراء، لا ماء فيها ولا طعام ولا أنيس ولا مأوى، ثم غلبه النوم فنام، وحين استيقظ وجد مائدة منصوبة عليها أطايب الطعام وأطيب الشراب، ووجد صوانًا منصوبًا ليأوي إليه؛ فلابد لهذا الإنسان أن يدور بفكره سؤالٌ: من صنع هذا؟
وهو سيسأل نفسه هذا السؤال قبل أن يستمتع بشيء من هذا، خصوصًا وأنه لم يجد أحدًا يقول له: أنت في ضيافتي.
إذنْ: فلابد أن يفكر بعقله.
وكذلك الإنسان الذي طرأ على الوجود، وما ادَّعى واحدٌ من خَلْق الله تعالى أنه خلق هذا الوجود، وما ادَّعى أحدٌ أنه خلق السموات والأرض، وما ادَّعى أحدٌ أنه سخَّر كلَّ ما في الكون لخدمة الإنسان.
وكان من الواجب على الإنسان قبل أن ينعم بهذا، أن يفكر: من الذي صنع له كل ذلك؟ فإذا جاء رسول من جنس الإنسان ليقول له: أنا جئت لأحل لك اللغز المطلوب لك.
هنا كان على الإنسان أن يرهف سمعه لذلك الرسول؛ لأنه قد جاء ليحلَّ للإنسان أمرًا يشغل باله.
ومن لطف الله سبحانه بنا أنه يطلب منا مقدَّمًا أن نفكر في ذلك، بل تركنا فترة طويلة بلا تكليف في هذه الدنيا، لينعم الإنسان بخير ربه، وبعد ذلك إذا ما جاء اكتمال الرشد ونضج، ولم يكن مكرهًا؛ فالحق سبحانه وتعالى يكلفه بتكاليف الإيمان.
ولابد للإنسان أن يتساءل: فكل شيء مهما كان تافهًا لابد له من صانع، والمصباح الذي يضيء دائرة قطرها 20 مترًا، عرفنا صانعه، ودرسنا المعامل التي أنجزته، والإمكانات التي تم استخدامها، والمواد التي صنع منها، أفلا نعرف تاريخ هذه الشمس، ومن جعلها لا تحتاج إلى صيانة ولا إلى وقود ولا إلى قطع غيار، وتنير نصف الكرة الأرضية؟
هذه مسألة كان يجب أن نبحثها؛ لنرى آفاق تلك البينة، بينة نور وقوة وفطرة، يهبها الله للإنسان المفكر؛ ليهتدي إلى أن وراء هذه الكون خالقًا مدبرًا.
فإذا ما جاء إنسان مثله ليقول له: إن خالق الدنيا هو الله تعالى، وهو سبحانه يطلب منك كذا وكذا، كان أمرًا منطقيًا وطبيعيًا أن نسمع لهذا الإنسان ونطابق ما يقول على إحساس الفطرة ورؤية البينات.
إذن: فنحن نصل إلى المجهول أولًا بالفطرة، وقد نصل بالبديهة التي لا تشوبها أدنى شبهة، فأنت حين ترى دخانًا تعتقد بالبديهة أن هناك نارًا، وحين تسير في الصحراء وترى خضرة؛ ألا تعتقد أن هناك مياهًا ترويها؟
هذه إذن أمور تعرفها بالبديهة، ولا تحتاج إلى بحث أو جهد.
وهناك أمور قد تتطلب منك جهدًا عقليًا تبحث به عما بعد المقدمات، مثل الجهد العقلي الذي استدل به العربي على أن هناك إلهًا خالقًا يُدير هذا الكون، فاستدل من البعرة على وجود البعير، وأن أثر القدم يدل على المسير، واستنتج من ذلك أن الكواكب ذات الأبراج، والأرض ذات الفجاج، والبحار ذات الأمواج، كلها أمور تدل على وجود اللطيف الخبير.